نقدم لكم شرح سورة الكهف من 32 إلى 44 كالتالي
قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُو يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُو ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُو يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُو اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَويُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُو خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } [الكهف: 32 – 44] صدق الله العظيم
الشرح بالفيديو
تفسير مجمع البيان– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ضرب الله لعباده مثلا يستفيئهم به إلى طاعته ويزجرهم عن معصيته وكفران نعمته فقال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} روي عن ابن عباس أنه قال يريد ابني ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين وترك مالا جزيلا فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله تعالى وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعا منها هاتان الجنتان وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم أنه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار كما حكى سبحانه وكان له جار فقير فافتخر الغني على الفقير وقال له أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وهذا أليق بالظاهر { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} أي: بستانين أجنهما الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي: جعلنا النخل مطيفا بهما { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} أي: وجعلنا بين البستانين مزرعة فكملت النعمة بالعنب والتمر والزرع { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أي: كل واحدة من البستانين آتت غلتها وأخرجت ثمرتها وسماه أكلا لأنه مأكول { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أي: لم تنقص منه شيئا بل أدته على التمام والكمال كما قال الشاعر :
ويظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه (2)
أي: ينقصني مالي { وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} أي: شققنا وسط الجنتين نهرا يسقيهما حتى يكون الماء قريبا منهما يصل إليهما من غير كد وتعب ويكون ثمرهما وزرعهما بدوام الماء فيهما أوفي وأروى { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قيل: إن معناه وكان للنخل الذي فيهما ثمر وقيل: معناه وكان للرجل ثمر ملكه من غير جنتيه كما يملك الناس ثمارا لا يملكون أصلها عن ابن عباس وقيل كان لهذا الرجل مع هذين البستانين الذهب والفضة عن مجاهد وقيل كان له معهما جميع الأموال عن قتادة وابن عباس في رواية أخرى { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: فقال الكافر لصاحبه المؤمن وهو يخاطبه ويراجعه في الكلام { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: أعز عشيرة ورهطا وسمي العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه وقيل معناه أعز خدما وولدا عن قتادة ومقاتل { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي: ودخل الكافر بستانه وهو ظالم لنفسه بكفره وعصيانه.
{ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} أي: ما أقدر أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار أبدا وقيل: يريد ما أظن هذه الدنيا تفنى أبدا { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي: وما أحسب القيامة آتية كائنة على ما يقوله الموحدون { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} معناه: ولئن كانت القيامة والبعث حقا كما يقوله الموحدون لأجدن خيرا من هذه الجنة قال الزجاج وهذا يدل على أن صاحبه المؤمن قد أعلمه أن الساعة تقوم وأنه يبعث فأجابه بأن قال له ولئن رددت إلى ربي أي كما أعطاني هذه في الدنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منها لكرامتي عليه ظن الجاهل أنه أوتي ما أوتي لكرامته على الله تعالى وقيل: معناه لأكتسبن في الآخرة خيرا من هذه التي اكتسبتها في الدنيا ومن قرأ منهما رد الكناية إلى الجنتين اللتين تقدم ذكرهما وفي هذا دلالة على أنه لم يكن قاطعا على نفي المعاد بل كان شاكا فيه .
ثم بين سبحانه جواب المؤمن للكافر فقال { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يخاطبه ويجيبه مكفرا له بما قاله { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} يعني أصل الخلقة أي خلق أباك من تراب وهو آدم (عليه السلام) وقيل: لما كانت النطفة خلقها الله سبحانه بمجرى العادة من الغذاء والغذاء ينبت من تراب جاز أن يقول خلقك من تراب { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } أي: نقلك من حال إلى حال حتى جعلك بشرا سويا معتدل الخلقة والقامة وإنما كفره بإنكاره المعاد وفي هذا دلالة على أن الشك في البعث والنشور كفر { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} تقديره لكن أنا أقول هو الله ربي وخالقي ورازقي فإن افتخرت علي بدنياك فإن افتخاري بالتوحيد { وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لا أشرك بعبادتي إياه أحدا سواه بل أوجهها إليه وحده خالصا وإنما استحال الشرك في العبادة لأنها لا تستحق إلا بأصول النعم وبالنعمة التي لا يوازنها نعمة منعم وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى ثم قال { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} معناه: وقال لصاحبه الكافر هلا حين دخلت بستانك فرأيت تلك الثمار والزرع شكرت الله تعالى وقلت ما شاء الله كان وإني وإن تعبت في جمعه وعمارته فليس ذلك إلا بقدرة الله وتيسيره ولوشاء لحال بيني وبين ذلك ولنزع البركة عنه فإنه لا يقوى أحد على ما في يديه من النعمة إلا بالله ولا يكون له إلا ما شاء الله ثم رجع إلى نفسه فقال { إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} معناه: إن كنت تراني اليوم فقيرا أقل منك مالا وعشيرة وأولادا فلعل الله أن يؤتيني بستانا خيرا من بستانك في الآخرة أوفي الدنيا والآخرة { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} أي: ويرسل على جنتك عذابا أونارا من السماء فيحرقها عن ابن عباس وقتادة وقيل: يرسل عليها عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك عن الزجاج وقيل: ويرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة أوغيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
{ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي: أرضا مستوية لا نبات عليها تزلق عنها القدم فتصير أضر أرض من بعد أن كانت أنفع أرض { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي: غائرا ذاهبا في باطن غامض منقطعا فيكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء { فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي: فلن تقدر على طلبه إذا غار ولا يبقى له أثر تطلبه به فلن تستطيع رده قيل: معناه فلن تستطيع طلب غير ذلك الماء بدلا عنه إلى هنا انتهى مناظرة صاحبه وإنذاره.
ثم قال سبحانه { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} معناه: أهلك وأحيط العذاب بأشجاره ونخيله فهلكت عن آخرها تقول أحيط ببني فلان إذا هلكوا عن آخرهم وأصل الإحاطة إدارة الحائط على الشيء وفي الخبر أن الله عز وجل أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها { فأصبح } هذا الكافر { يقلب كفيه } تأسفا وتحسرا { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} من المال وهو أن يضرب يديه واحدة على الأخرى عن ابن عباس وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا فصار عبارة عن الندم { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: ساقطة على سقوفها وما عرش لكرومها وذلك أن السقف ينهدم أولا ثم ينهدم الحائط على السقف وقيل: إن العروش الأبنية ومعناه: خالية على بيوتها قد ذهب شجرها وبقيت جدرانها لا خير فيها.
{ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} ندم على الكفر لفناء ماله لا لوجوب الإيمان فلم ينفعه ولو ندم على الكفر ف آمن بالله تحقيقا لانتفع به وقيل: إنه ندم على ما كان منه من الشرك بالله تعالى وآمن { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: لم يكن لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب الله عنه وقيل الفئة الجند قال العجاج :
كما يجوز الفئة الكمي { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أي: وما كان ممتنعا عن قتادة قيل: معناه وما كان مستردا بدل ما ذهب عنه قال ابن عباس وهذان الرجلان هما اللذان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات في قوله { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} يقول أإنك لمن المصدقين إلى قوله { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}.
وروى هشام بن سالم وأبان بن عثمان عن الصادق (عليه السلام) قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه { حسبنا الله ونعم الوكيل } فإني سمعت الله يقول بعقبها { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله { لا إله إلا أنت سبحانك } إني كنت من الظالمين فإني سمعت الله سبحانه يقول بعقبها { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله { وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد } فإني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها فوقاه الله سيئات ما مكروا وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله { ما شاء الله لا قوة إلا بالله } فإني سمعت الله يقول بعقبها { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} وعسى موجبة.
وقوله { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أخبر سبحانه إن في ذلك الموضع وفي ذلك الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن الولاية بالنصرة والإعزاز لله عز وجل فهوالذي يتولى أمر عباده المؤمنين ويملك النصرة لمن أراد وقيل: هنالك إشارة إلى يوم القيامة وتقديره الولاية يوم القيامة لله يريد يومئذ يتولون الله ويؤمنون به ويتبرءون مما كانوا يعبدون عن القتيبي وقيل: معناه هنالك ينصر المؤمنين ويخذل الكافرين فالولاية يومئذ خالصة له لا يملكها أحد من العباد { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجي ثوابا على تقدير لو كان يثيب غيره لكان هو خير ثوابا { وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير عقب طاعة ثم حذف المضاف إليه والعقب والعقبي والعاقبة بمعنى .
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص342-349.
2- قائله :فرعان بن أعرف التميمي،وكان له ابن عاق يقال له منازل،وفيه يقول البيت.وفي رواية (اللسان))(تظلم مالي هكذا.ا هـ)) وفي رواية غيره )) تغمط حقي باطلاً.ا هـ)).تفسير الكاشف– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً } .
الخطاب في اضرب للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وضمير لهم للمشركين الذين قالوا لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) :
اطرد المؤمنين ، أويعود الضمير لكل مترف متكبر ، والمراد بالرجلين الغني والفقير اللذان وقع بينهما الحوار الآني ، والمعروف من طريقة القرآن انه كثيرا ما يضرب الأمثال للأفكار المجردة والمبادئ العامة ، ويشبهها بالأشياء المحسوسة ، كتشبيه الايمان بالنور ، والكفر بالظلمات . . وقد يشبه المحسوس بمحسوس آخر أوضح منه وأبين ، كتشبيه المرتد عن الدين بالكلب اللاهث ، والغاية من ذلك الجلاء والتوضيح بالإضافة إلى العبرة والعظة : { وعاداً وثَمُودَ وأَصْحابَ الرَّسِّ وقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً . وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ } – 39 الفرقان.
وقد شبه سبحانه هنا حال الطغاة المترفين بمتكبر كافر جهول يملك بستانين ، فيهما نهر وزرع من الحبوب ، وأشجار تحمل الفاكهة المفضلة آنذاك وهما الرطب والعنب ، وكل من الزرع والشجر يؤتي نتاجه في أوانه كافيا وافيا لا ينقص منه شيء . . وشبه سبحانه المؤمنين بمتواضع مؤمن عارف ، ولكنه فقير لا يملك شيئا ، وقد وقع بين الاثنين الحوار التالي :
{ فَقالَ لِصاحِبِهِ } . القائل هو الغني الجاحد المتكبر ، وصاحبه المؤمن العارف المتواضع { وهُو يُحاوِرُهُ } يراجعه في الكلام : { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وأَعَزُّ نَفَراً } .
وإذا كان أكثر مالا ورجالا فهوأعظم وأكمل ، لأن المال والجاه هو مقياس العظمة والكمال ، أما الايمان والإخلاص فكلام بلا معنى . . هذا هو منطق الفسقة الفجرة قديما وحديثا . . فقيمة كل امرئ – عندهم – ما يملك ، لا ما يحسن علما وعملا . . هذا هو بالذات المنطق الذي جر على الانسانية الويلات ، وهو الدافع الأول على التفنن بأسلحة الخراب والدمار ، وصرف الملايين على صنعها من أقوات الجائعين . . يسلب الاستعمار مقدرات الشعوب ، ويحولها إلى قنابل وصواريخ لا لشيء إلا ليلقيها على تلك الشعوب بالذات ، الشعوب التي يدمرها المستعمرون بقنابل من أرزاقها وخيراتها .
{ ودَخَلَ جَنَّتَهُ وهُو ظالِمٌ لِنَفْسِهِ } لأنه استجاب لأهوائها وشهواتها ، وعرّضها للتهلكة ، تماما كمن يستجيب لطفله فيما يضره ويهلكه { قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً } . قال الرازي : « كيف قال : ما أظن أن تبيد هذه أبدا مع أن الحس يدل على أن الدنيا بأسرها ذاهبة غير باقية ؟ . قلنا ، ان المراد انها لا تبيد مدة حياة صاحبها ووجوده » .
والجواب الصحيح : ان الجهل والغرور أعميا صاحب الجنة عن كل شيء حتى عن المحسوسات والمرئيات ، قال عز من قائل : « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » – 179 الأعراف . { وما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً } . ولا يستند هذا الظن إلا إلى بطره وغروره ، ووهمه وخياله بأن نعمته خالدة لا يفنيها شيء ، وبهذا نجد تفسير انكار من أنكر يوم الحساب من الطغاة والمترفين { ولَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً } . لأن المترف هنا مترف هناك وفي كل مكان في منطقه ومفهومه قياسا للغائب على الشاهد . . وما درى ان النجاة يومئذ للمتقين ، لا للطغاة والمترفين : { ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ } – 28 الحاقة .
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُو يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } . قال المؤمن للكافر مقرعا وموبخا : أتجحد خالقك ، ودلائله ظاهرة فيك ؟ . من أين جاءتك الحياة بعقلها وسمعها وبصرها ، ولم تك من قبل شيئا مذكورا ؟ . { لكِنَّا هُو اللَّهُ رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } . أما أنا فقد اهتديت بفطرتي وعقلي إلى خالقي وخالق كل شيء وآمنت بأنه هو وحده الخالق الرازق .
ثم قال المؤمن مذكّرا الكافر بنعمة اللَّه عليه ، وبوجوب شكرها وحمد اللَّه عليها : { ولَولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } . لو كنت من ذوي الرشد والبصيرة لأدركت ان الخير والفضل أن يكثر علمك ، لا مالك ، وان تباهي الناس بأخلاقك لا بجاهك ، وان تعلم أنه لا حول ولا قوة إلا باللَّه الواحد القهار ، فهووحده الذي يهب العز والجاه ، ويحوّل الغنى إلى فقر ، والفقر إلى غنى . ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
{ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً ووَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ويُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَويُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } . استطال الكافر على المؤمن ، وتعالى عليه بماله ، فقال له المؤمن : ان الغنى والفقر بعد العرض على اللَّه ، وما يدريك اني لديه أغنى منك وأكرم ، وانه قد ادخر لي في دار البقاء ما هو خير من جنتك هذه التي تفخر بها وتتعاظم ، بل ما يدريك أن يجعلني غنيا ، ويجعلك فقيرا بين عشية وضحاها ؟ .
انك تزهووتفخر بمالك لأن الناس يغبطونك عليه ، ولكن هل تدفع عنك غبطتهم هذه ما يخبئه الدهر لك من العواقب ؟ . وهل أنت في مأمن من اللَّه وغضبه ؟ ألا تخشى أن ينزل عليك وعلى جنتك صاعقة من السماء فتصبح أنت وما تملك أثرا بعد عين ؟ .
{ وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها } .
هلك الزرع ، وهوت الأشجار من كل جانب ، وغار الماء حتى آخر نقطة منه ، وأصبحت الأرض زلقا لا تثبت عليها قدم . . كأن لم يكن شيء ، وحل الفقر محل الغنى ، والكآبة محل الفرح ، والذل والانكسار محل التعاظم والكبرياء . .
وهذه هي ثمرة الكفر والبغي والفساد ، بل وثمرة الغفلة والغرور . . حسرة وندامة على الجهود والأموال ، والتفريط والإهمال .
{ ويَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } . كأنه أراد بهذا القول أن تعود جنته إلى روائها وعطائها ، ولكن هيهات . . « لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوكَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » – 158 الأنعام .
{ ولَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وما كانَ مُنْتَصِراً } . أبدا لا صاحب ولا عشيرة ولا جاه ولا مال . . لا شيء على الإطلاق إلا اللَّه : « قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً » – 22 الجن أي ملجأ { هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُو خَيْرٌ ثَواباً وخَيْرٌ عُقْباً } . هنالك إشارة إلى يوم القيامة ، والولاية بفتح الواوالنصرة ، وضمير هو يعود إلى اللَّه ، والعقبى العاقبة ، والمعنى ان الإنسان إذا وجد في حياته هذه من يناصره ويدفع عنه ، أويعينه بشيء فإنه يوم القيامة لا يجد حيلة ولا وسيلة ولا ناصر إلا اللَّه وحده ، واللَّه سبحانه مع المتقين ، وقد أعد لهم أجرا كريما ، وحسن مآب .
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 128-131.
شرح أخر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم ولهم مثلاً برجلين ] يعني: لهؤلاء وهؤلاء [جعل الله لأحدهما جنتين -أي: بستانين- من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما, وفي خلالهما الزروع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ، أي: أخرجت ثمرها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ، أي: ولم تنقص منه شيئاً. وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا أي: والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34] قيل: المراد به المال، روي عن ابن عباس وعن مجاهد وقتادة، وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا ].
فالأظهر: أنه الثمار على ظاهر الآية: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيده القراءة الأخرى: (وكان له ثُمْر)، بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة، كخشبة وخشب, وقرأ آخرون: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم.
(فَقَالَ)، أي: صاحب هاتين الجنتين لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ، أي: يجادله ويخاصمه, يفتخر عليه ويترأس، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أي: أكثر خدماً وحشماً وولداً.
قال قتادة: تلك -والله- أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد, قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تقرض ولا تهلك ولا تتلف, وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالآخرة, ولهذا قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36] أي: كائنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] أي: ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، وقال: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، أي: في الدار الآخرة، تألى على الله عز وجل, وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان ].